** شرح مجمل لهذا النظم المبارك **
بدأ الناظم رحمه الله تعالى نظمه بحمدِ رَبِّهِ جلَّ جلاله الذي أغناه وأقناه وعَلَّمَه , وجعلَ شُكْرَ العبدِ أَحَدَ الطرق الموصلة للخير .
ثم أهدى بعد حمده صلاةً , ورجا استمرارها على الرِّضا , ويريد به النبي - صلى الله عليه وسلم - , ويُهديها كذلك إلى الصحابةِ والآل ؛ وهذا الإهداء لأجلِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دلَّنا في الوحي - ويريد به القرآن الكريم - والسنن - وهي سنته صلى الله عليه وسلم - إلى الرَّشادِ والطريقَ السليم , والذي كانت ثمرته أنَّ الأغلاف التي على القلبِ الحائرِ زالتْ وسَلِمَ القلب منها !
ثم وجَّه النداء إلى كل من يريد أن يكون في قلبه نوراً وضياءً , أن طريق الحصول عليهما هو في تدبر الوحيين وهما الكتاب والسنة والانقياد لأحكامهما والتسليم لأخبارهما .
وأن عنوان السعادة ؛ سعادة المرء في هذه الحياة أنْ يُقبِل على الله تعالى مُعَظِّماً لربه جلَّ جلاله ! ومن فَقَدَ هذا فقلبه أحد قلبين إمِّا إنه ميت أو مُصاب بالعِللِ والأمراض المعنوية كالرَّينِ - وهو غلاف غليظ يكون على القلب - أو مصاب بعَمَى القلب !
ودليل ذلك أن الإنسان يعرف أن جوارحه سقيمة , مريضة عندما لا يستطيع أن يحرِّكها فيمنعه شللٌ في يدهِ مثلاً أن يحرِّكها وينتفع بها ؛ وقد يكون السقم والمرض لا يمنع الانتفاع ؛ لكنه يُقَلِّل من الحصولِ على منفعتها فتصبح يده كما في المثال ثقيلة لا يحركها بسهولة !
وفي المقابل فإنَّ سلامةَ هذه الجوارح وصحتها تُعرف بأنْ ينتفعَ بها الإنسان كاملَ الانتفاع , فاللسانُ مثلاً عندما ينطق به نطقاً سليماً يسيراً , واليدُ عندما يأخذ بها ويَبْطش ويفعل ما يريد بسهولة , ونموُّ هذه الجوارح يدلُّ على سلامتها من العلل , فكذلك القلبُ إذا عَدِمَ نفعه أو قَلَّتْ منفعته فهو مريضٌ عليل !
وأَشدُّ أمراضِ القلب أن يَفْقَدَ قلبك ما أُريدَ به من الإخلاصِ لله تعالى وحُبِّهِ جلَّ جلاله ؛ فإذا خَلا قلبك من هذه الأمور فاعلمْ أنه قلبٌ عليلٌ فسارع لدوائه !
وأمَّا إنْ وجدتَ قلبكَ على غيرِ هذه الحالة ؛ فوجدتَ فيه الشوق إليه, فاعلمْ أنَّ صدقَ ما وجدت يكون عندما تجدْ أنَّ هذا الشوق يدفَعُك إلى الإنابةِ , وتقديم ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على محبوبات نفسك ورغباتها , وبهذا تستطيع أن تحكمَ على صدقِ شوقكَ أَمْ زيفه !
فإن كنت ممن يُؤثرُ ما يحب على ما يحبه الله جلَّ جلاله فاعلمْ أنَّ قلبكَ مريضٌ على حافة من الهلاك إمَّا الموت , وإمَّا عَمَى القلب ,
فإنَّ أعظمَ محذورٍ يخفى على الإنسان هو موت القلب وانشغاله بغير علاجه !
وعلامة حصول هذا المحذور أن تكونَ القبائحَ عندك هينة ؛ لأنَّ قلبكَ لو كان سليماً لكان عند حصولِ القبائحِ نادماً متألماً .
فجامعُ أمراضِ القلوبِ - والذي كلُّ علةٍ ترجع إليه - هو أن يَتْبَعَ قلبك هواك المخالف للشرع , فمتى ما خالفت هذا الهوى صحَّ قلبك وسَلَمْ !
ومن شؤم وعقوبة هذا الإتِّبَاع أن يتَغَذَّى القلب على شيءٍ لا ينفع , ويترك كذلك الدواء الشافي الذي يُعالج قلبه , ويَصحب ذلك كله العَجْز فهو شرُّ بَلِيَّةٍ يُبْلَى بها المرء !
إنَّ العبدَ إذا كان قلبُهُ صحيحاً ظَهَرَ واتَّضَحَ وبَانَ ارتحاله وسَفَرُه إلى دارِ الآخرةِ يرجو ما بها مُسَلِّماً على هذه الدار الفانية غير عابِهٍ بها , ومِنْ علامةِ صحةِ قلبكَ أنْ تشعرَ أنَّ قلبكَ يخفق ويضرب ويتحرك دوماً نحوَ ربك جلَّ جلاله لا يستقر ولا يطمئن إلا عند
ذكره وفي طاعته , حتى يُهنَّا ويُثْمر ذلك التحريكُ والضربُ الإنابةَ والخضوعَ لربه جلَّ جلاله ونتيجة هذه الثمرة سكونُ القلب وراحته , واطمئنانه ونعيمه الذي لا يمكن أن يتنَّعم بغيره !
ومن علامة صحة قلبك ؛ أن تذكر ربك في كل وقت ؛ لا يمكن أن يسعدَ ويرى النعيم إلا في هذا الطريق الذي هو طاعة ربه جلَّ جلاله !
ومما يُعينُ على ذلك أن يَصْحَبَ المرء حرَّا أي إنساناً لم يَأْسِرْهُ هَوَاه ولا حُبّ دنياه , بل هو خالص من كلِّ ذُلٍّ إلا لله تعالى , هذا المرء هو الذي يدل على الطريق الصحيح بأن يُعينكَ عندَ حاجتك وينصحك عند مخالفتك !
ومن علامة صحة القلب كذلك ؛ إن يكون لك وردٌ وطاعة لا تتركها ؛ فإذا فاتت عليك في أحد المرات وجدت في قلبك الكآبة والندم والتوجع والألم لفواتها !
ومن علامة صحة قلبك؛ أن يشتاقَ في وقت الطاعة إليها كشوق من اشتدَّ به الجوعُ والظمأ عندما يجدْ ما يأكل وما يشرب !
ومن علامة صحة قلبك كذلك ؛ أن همَّ الدنيا يزول عن قلبك عندما تقف بين يدي ربك جلَّ جلاله للصلاة , فترتاح بها وتطمئن وتتنعم , ويشتد هذا البُعد والخروج عن هذا الهم فيزول غمك ويرتفع قلبك ويسمو !
فمن كانت هذه صفة قلبه فأكرِم به من قلبٍ سليمٍ قريب من ربه جل جلاله حتى أصبحَ شديدَ المحبة فهو متيم في حُبِّه هذا !
ومن علامات صحة قلبك أنْ تجمعَ همك على ربك جلَّ جلاله فلا تَظُّنَّ بربك إلا خيراً , وأنه هو الذي ينفع ويضر , وتسعى في كلِّ ما يرضيه , وتعظيمه في قلبك لا يفارقه .
ومن علامات صحته كذلك ؛ أن يراعي أوقاته ويشح بها , وذلك بأنْ يحاسب نفسه حساباً دقيقاً كما يحاسبُ البخيل في إنفاقِ ماله !
ومن علاماته كذلك ؛ أن يكونَ في قلبك اهتمامٌ يثمرُ حرصاً منك ورغبةً في تصحيحِ جميعِ أعمالك , وأنْ تحاول بلوغَ التمام فيها ما استطعت إلى ذلك سبيلا ؛ وهذا لا يكون إلا بالإخلاص لله تعالى وسلامة النية والنُّصحَّ بالحسنى , وأن يكونَ قلبك متبعاً ملازماً لكلِّ ما وافقَ الشَّرْع منتهياً عن كلِّ ما نهاه , ثم يشهد مع هذا كله عظيمَ مِنَّةَ الله تعالى وفضله عليه , وأنَّه مهما عَمِلَ فإنه مقصر في حق مولاه جلَّ جلاله !
فهذه الأمور للقلب بمثابة الرداء والثوب للبدن ؛ متى ما كان قلبك متصفاً بها نجا من أخطرِ مرضينِ يعتريان القلب , وبهما هلاكه الموت والعمى !
ثم بعد بيانِ القلب المريض والميت والسليم خَتَمَ الناظم - رحمه الله تعالى - نظمه بسؤال الله تعالى التوفيق إلى امتثال ما نقول ؛ فإنك ما زِلْتَ بنا برَّاً ومنعما , فإني وإنْ قُمْت بالبلاغ فيما سَبَقَ من كلام ليس من قولي - وهذا من عظيم تواضعه رحمه الله – إنما قمت بتبليغه لغيري , لأنه قول محقق لا يمكن أن يكون قولي وأنا أُقرُّ وأعترفُ بتقصيري وجهلي وعِلْمِي بهما !
وسبب تبليغي هذا : أنَّه حين أتى من هم أمثالي من أهل التقصير والجهل إلى مكانٍ ليس فيه علم ولا علماء تكلَّمْنَا وأعلنَّا , فمَثَلُنا كمَثَلِ غابةٍ ليس فيها أُسدها وهم الملوك - كما يقال – فلما غابت تواثبت الثعالب التي ليست بشيء , والتي لم تكن تجرؤ على أن تطأَ في ساحةِ وفناءِ حمى هذا الأسد !
فيا من يسمع النجوى , ويا من يعلم ما خفى أسألك غفراناً يكون عامَّاً لكلِّ ذنوبي , فوالله ما حملني على هذا البلاغ وكتابة هذا النظم والقول إلا ضرورة رأيتُها خَشِيت إنْ سكت ولم أُبين هذا القول أكون كاتماً للعلم , مما جعلني أُظْهِر للناس علمي وهو بمثابة البضاعة المزجاة , وأَمَلَيْ أنْ تعفوَ عني وترحمني لتطاولي وتقصيري , فإنَّهُ لا يخيب من يستجيرُ بك يا إلهي وألحَّ عليك بإجابة سؤاله وهو طاهر القلب مسلما لك !
فاللهم صلِّ على خيرِ الأنامِ محمدٍ وكذلك صحابته الكرام وآله الأطهار ما دامت السماء !